في عالم يتغير باستمرار وبسرعة، وتتداخل فيه التحديات والتطلعات، أضحى فهْم المستقبل نافذة نحتاج إليها لتوقُّع شكل مصائرنا المقبلة في كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والعلوم والتكنولوجيا، اعتماداً على البحث والتحليل، حتى نكون أكثر استعداداً لسيناريوهات المستقبل، وبناء رؤى دقيقة تجعلنا قادرين على طرح الحلول المستدامة للتحديات المستقبلية.
وغالباً ما ترتبط قراءة المستقبل بالعديد من العوامل المعقدة، كالتطور المتسارع، خاصة في مجال التكنولوجيا، وعدم الوثوق بالمعطيات والافتراضات المسبقة، وحالة التغير وعدم الاستقرار في كل مظاهر الحياة تقريباً، وازدياد حجم المعارف، ما يجعل تحفيز الإبداع والتعلم والتدريب المستمر أمراً ضرورياً في مواكبة التغيرات، والتقدم بخطوات في مسار تَشكيل المستقبل، لا انتظار المجهول، والاضطرار للتعامل مع المتغيرات بشكل آني يُعيق التطور والاستدامة.
وعند استشراف المستقبل توضع تصورات وبدائل تساعد المسؤولين وصناع القرار في اختيار سياسات تستغل الموارد المتاحة بكفاءة، بالاعتماد على أدوات التحليل الكمي والكيفي والتكنولوجيا، ومراعاة أبعاد الطبيعة المستقبلية، ولذا هناك حاجة إلى إعداد الموارد البشرية القادرة على مواكبة التطورات العالمية المعاصرة والمستقبلية، بإيجاد نُظم تعليم وتدريب متطورة تلائم التحديات، وتمتلك القوة من المعرفة العلمية الحديثة، وبالتالي تستطيع رصد وتحليل الواقع وتقدير المستقبل بمناهج بحثية مرنة.

ومع التقدم الهائل في التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي، أصبح في الإمكان تحليل كميات ضخمة من البيانات بشكل فاعل، تساعد في التنبّؤ باتجاهات المستقبل، ووضع سيناريوهات تعتمد على الابتكار وتطوير حلول فاعلة من خلال التكنولوجيا، فمن استعدّ للمستقبل وأسهم في صناعته تجاوز الكثير من التحديات بمنهجية توفر مقومات الفهم الشامل للمستقبل وتحدياته، فالتدريب على أدواته ومناهج رصينة يمكّن من خلق رؤى مستقبلية ثاقبة معتمدة على التفكير والتخيل والإدراك والابتكار لاقتراح مستقبليات واقعية، وبالتالي يمكننا تحديث الخطط الاستراتيجية لتحسين عملية صنع القرار، وتوليد الحلول المناسبة لمواجهة الأزمات.

ولهذا، اختار مركز «تريندز» للبحوث والاستشارات «استشراف المستقبل بالمعرفة» شعاراً ونهجاً له في تحليل الفرص والتحديات على مختلف المجالات بضوابط صارمة للبحث العلمي، وبناء شبكة علاقات قوية مع المراكز البحثية والمنظمات الدولية، بإقامة فعاليات علمية وبرامج بحثية وتدريبية تتناسب مع المنطلقات المعرفية في الساحتَين العلمية والبحثية، للاستفادة من الخبرات الدولية، وصقل مهارات الشباب البحثية من داخل المركز وخارجه، عبر «مجلس شباب تريندز»، باعتبارهم قادة المستقبل، والقادرين على تصور البدائل وتحقيق الاستراتيجيات المستقبلية.

ويعتمد استشراف المستقبل على قواعد ترسم نهجاً استباقيّاً واعتماد سيناريوهات يُمكن تحويلها إلى قرارات قابلة للتنفيذ، واستكشاف الغموض القادم من المستقبل بناء على بيانات تحدد على إثرها الاتجاهات للتغييرات والأبعاد المستقبلية، لذا، لم تعُد دراسة المستقبليات عملاً ثانويّاً بالنسبة للحكومات والمؤسسات، بل أصبحت جزءاً أساسيّاً، لأن عدم الاستعداد للمستقبل يهدر الجهد، ويُفقد الشعوب الثروات والمستقبل.

وفي القطاع البحثي، تفرض التحديات بناء مهارات متطورة لتعزيز القدرة على استخدام الأدوات والتقنيات بكفاءة، ويعتبر التدريب المستمر إحدى أهم الأدوات التي تمكّن الباحثين من تطوير قدراتهم وتحقيق أفضل إنتاجية بمهارة تستطيع التكيف مع التقدم التكنولوجي، واستكشاف أفكار جديدةٍ العلمُ محور أبعادها، وتطوير حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه الدول، ما يدفع البحث العلمي إلى الأمام، ويطور الابتكار والتفكير الإبداعي وحل المشكلات، والتدريب المستمر وتطوير مهارات التحليل والإحصاء واكتساب الخبرة في البحث، والاطلاع على أحدث التطورات في التكنولوجيا يعني استثماراً في المستقبل، لتطوير كوادر بحثية مؤهلة أمام تحديات العصر، خاصة إذا جمعت التدريبات بين النظرية والتطبيق والاستفادة من التكنولوجيا في البحث.

إن التدريب المستمر والمعرفة وتطوير القدرة على التحليل النقدي للمعلومات والبيانات مع عدم اقتصار البحوث عن تخصص معين، أي تطوير البحوث في العلوم البينية، لإدراك أبعاد الظواهر المتعددة، واستدامة النشر والتواصل العلمي، تجعل الصورة أدقّ في تحليل الأبعاد المختلفة وتأثيرها على المستقبل، وبالتالي الاستشراف للمستقبل، سواء في السياسات الحكومية أو الخاصة، أو المجتمع المدني، على أُسس علمية رصينة ومعايير مبتكرة تحفّز على التنمية المستدامة.

* باحث - مدير إدارة التدريب والتطوير -مركز تريندز للبحوث والاستشارات